تونس.. المجتمع المدني والثورة

ليس من اليسير الحديث عن المجتمع المدني عند المنتمين إلى الثقافة العربية رغم دوران العبارة في أدبياتنا المختلفة، وتزداد هذه الصعوبة مع محاولة البحث عن صور لهذا المفهوم في تجربة العرب السياسية الحديثة.

ولا يعود الأمر إلى ما يكون من عسر في “تبيئة” هذا المفهوم المنقول من ثقافة أخرى، وإنما أيضا إلى تعدد هذا المفهوم وتنوعه في بيئته الثقافية الأصلية، ولعل المعنى المشترك للمجتمع المدني هو في صلته بالدولة الحديثة وقيامه مقابلا لها، فهو منها وإليها وسليل تجربتها وتحولاتها والابن الشرعي لثقافتها.

ومن هذا المنطلق يرتبط الحديث عن المجتمع المدني في تونس بتجربة الدولة الحديثة، ومن خلالها يمكن تبيّن موقعه ودوره في ثورة الحرية والكرامة والأطوار التي مرت بها.

الفضاءات الأهلية والوطنية
من الصعب أن يُفهم ما يحدث في بتونس بعيدا عن تجربة الدولة المسماة وطنية، وهي أقرب إلى أن تكون جهازا غنائميا لم ينجح في تحويل الغنيمة إلى اقتصاد بعبارة محمد عابد الجابري، وهذا حال الدولة في المجال العربي.

من الصعب أن يُفهم ما يحدث في تونس بعيدا عن تجربة الدولة المسماة وطنية وهي أقرب إلى أن تكون جهازا غنائميا لم ينجح في تحويل الغنيمة إلى اقتصاد بعبارة محمد عابد الجابري

ولعله من المهم التأكيد على أن تجربة الدولة في تونس لم تغطِ كل المساحة الاجتماعية، وكان هذا القصور سببا كافيا لنشأة الهامش منطقة توتر وفضاء خارجا عن نفوذها.

ولقد كان لهذا التوتر انعكاس على مجال الدولة الحيوي وعلى صلتها بالمجتمع المدني مثلما كان مقدمة إلى بروز فضاءين متجاورين: فضاء أهلي في الهامش وفضاء وطني داخل مجال الدولة. وارتبط المكون الوطني بالمجال الذي غطاه نفوذ الدولة، خاصة في الحواضر الكبرى، وفي مقدمتها تونس العاصمة.

ففي هذا المجال كانت نشأة المجتمع الجديد، وارتبط المكون الأهلي بالمجال الذي يقع خارج نفوذ الدولة، مما جعل منه التعبير الأقرب إلى المجتمع التقليدي، ورغم ما بين المكونين من تمايز فإنه لم تكن بين القديم والجديد جدُرٌ عازلة.

فكما كان في الحواضر فئات تقليدية في ثقافتها، مع تمتعها بمستوى من العيش الرفيع، كانت في الأعماق عائلات متأثرة بنمط العيش الجديد وثقافته المصاحبة، وكان بين المجالين تفاعل لا يتوقف، وهو تفاعل بين جديد صاعد وقديم نازل كان له دور أساسي في نحت الخصوصية التونسية.

ومع الاحتلال الفرنسي الداخل إلى تونس بعنوان الحماية سنة 1881، تأكد التباين بين المكونين مع تغيّر في اتجاهات تفاعلهما وفي مآلاته المختلفة، وكان من مظاهره السياسية قيام صنفين من المقاومة: مقاومة أهلية مجالها الهامش، ومقاومة وطنية مجالها الحواضر والمدن الكبرى.

ولئن كانت المقاومة الأهلية من خارج ثقافة المحتل لأنها لم ترَ فيه سوى تهديد لهوية انتظامها السياسي الجماعي الأهلي المضاد للدولة فإن المقاومة الوطنية كانت من داخل ثقافة الغازي بتمثلها ثقافة الدولة الحديثة في الإدارة والتنظيم السياسي والاجتماعي من خلال الروابط والجمعيات والأحزاب، وكانت هذه الثقافة صدى لما هو دائر في ضفة المتوسط الشمالية رغم أن عنفوانها سبق الجيوش الأوروبية العابرة إلى ضفة المتوسط الجنوبية بعنوان نشر المدنية وأنوار الثقافة الحديثة.

والنتيجة هي أن لهذا التمايز بين الأهلي والوطني جذورا في تجربة الدولة وفي علاقتها بمجالها وفي قصورها عن تغطية كل المساحة الاجتماعية، وهذا ما يفسر تحول التمايز إلى انقسام اجتماعي جعل من الأعماق مصدرا للتوتر ومن المطلب “المواطني” الاجتماعي قاعدة لحركة الهامش المفقّر التي تحولت إلى انتفاضة اجتماعية اتخذت لها انطلاقا من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 عنوان الحرية والكرامة، وهي حركة جذرية تخطت حدودها تونس لتمتد إلى المجال العربي وتشغل العالم وتوازناته التقليدية في مطلع الألفية الثالثة.

دور المجتمع المدني
والمجتمع المدني -في هذا السياق- هو المجتمع الجديد الذي نشأ في مجال الدولة وثقافتها المؤسِّسة، وهو ليس المجتمع الأهلي/الهامش، بل نشأ بجواره وموازيا له حتى صار المشهد الاجتماعي السياسي مكونا من دولة و”مجتمعين” مدني وأهلي، غير أنه من المهم الوقوف عند العلاقة بين هذين “المجتمعين” وعلاقة كل منهما بالدولة.

إذا كان من أدبيات الاجتماع المعاصر ما يقوم من “تناقض” بين الدولة والمجتمع فإنه في حالتنا هذه يمكن الحديث عن مستويين من التناقض: مستوى أول يتمثل في تناقض الدولة مع مجتمعها المدني، ومن مظاهره التجاذب الناتج عن المطالب القطاعية والتحركات الاجتماعية وجملة التوترات المؤطرة بما يُسمى مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وروابط مهنية ومنظمات حقوقية.

المجتمع المدني هو المجتمع الجديد الذي نشأ في مجال الدولة وثقافتها المؤسِّسة، وهو ليس المجتمع الأهلي/الهامش، بل نشأ بجواره وموازيا له، حتى صار المشهد الاجتماعي السياسي مكونا من دولة و”مجتمعين” مدني وأهلي

ومستوى ثانٍ يتمثل في التناقض بين الدولة ومجتمعها المدني من ناحية والمجتمع الأهلي/الهامش من ناحية أخرى. ونتبين من خلال التجربة أن التناقضين لا يتزامنان، إذ يخفت التناقض الأول (دولة/مجتمع مدني) كلما احتد التناقض الثاني (دولة/مجتمع أهلي)، والعكس صحيح.

وعلى هذا دلائل عدة من تجربة الدولة الحديثة، وسنكتفي بما كان من مظاهر هذا التناقض بمستوييه في تجربة التأسيس مع انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.

ومن هذه المظاهر التقاء المركزية النقابية الناطقة باسم قوة العمل مع منظمة الأعراف الناطقة باسم رأس المال مدعومتين بقوة حقوقية متمثلة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وأخرى قانونية مثلتها هيئة المحامين على موقف واحد، وهذه المنظمات الأربع المشار إليها شكلت الرباعي الراعي للحوار الوطني.

ولم يكن هذا الحوار -في منطلقه- إلا عنوانا قريبا من المنظومة القديمة، ولكنه عنوان لطيف وقف مقابلا للاختيار الشعبي الحر، وقامت أطروحته على ضرورة مجاورة الشرعية التوافقية إلى الشرعية الانتخابية.

المجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته وروابطه يجاذب الدولة، وقد يواجهها (أحداث 26 يناير/كانون الثاني 1978) ولكنه ينحاز إليها عندما يكون التحدي من خارج مجالها الحيوي أي من المجتمع
الأهلي/الهامش، وصار هذا أشبه بالقانون والسنّة المطردة.

وما كان لـ”الهروب المذل” أن يحدث لولا ارتباك المجتمع المدني وتحديدا اتحاد الشغل، وعجز المركزية النقابية المثقلة بسياسة المناولة والمنهكة بخطاب المناشدة، زمن الاستبداد، عن اتخاذ قرار حاسم أمام وعي قاعدي نقابي مسيّس ومتمرد، وأن قرارها الأكثر انسجاما مع مصالحها والأقرب إلى طبيعتها هو الوقوف في منطقة هي بين الدولة والنظام، ولذلك لم تتخذ قرارا بالإضراب العام وفوضت الأمر إلى هيئات إدارية جهوية.

بعد هذا التردد استعادت المركزية النقابية وعيها جزئيا في اعتصام القصبة 2 ليكتمل الوعي عندها مع مؤتمر طبرقة وما كان فيه من “ترتيبات”. وتوضحت الصورة لديها مع نتائج انتخابات التأسيسي، فالمجتمع المدني بالمعنى الذي ذكرنا كان في المنعطفات الحاسمة مدافعا شرسا عن الدولة الغنائمية المنحدرة من بروتوكول الاستقلال.

وتعقّد المشهد مع انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 حين تم تفويض من كان في انتمائه الاجتماعي متوترا بين الأهلي والوطني، فسكن طابق الدولة العُلْوي ليبقى طابقها السفلي -أو ما يُعرف بالدولة العميقة- تحت سلطان القديم.

ويبدو أن ما فعلته الانتخابات أنها نقلت جانبا من صراع الدولة/الهامش إلى داخل الدولة نفسها. ويعد هذا اختراقا اجتماعيا تاريخيا لم يحظَ بالاهتمام المطلوب، وهو ما جعل الدولة تبادر إلى محاصرة هذا الاختراق، فهي تجيد الصراع على أرضها وميدانها مثلما تتقن تجنيد مجتمعها المدني الذي وإن نازعها مصالح منظوريه الاجتماعيين فإنه يقاتل عنها بشراسة حينما يتهددها خطر “خارجي”.

في هذا السياق الدقيق نفهم الشروط التي تم فيها تفويض الإسلام السياسي الذي قاد الترويكا على مدى سنتين، ومن المهم الانتباه إلى تغيّر موقعه في الصراع الاجتماعي، فبقدر ما اعتاد في مسيرته الطويلة على مغالبة الدولة من خارجها ارتبك حين وجد نفسه في لحظة فارقة لم يستوعبها بسرعة طرفا قويا في مؤسستيها التنفيذية والتشريعية.

كان من نتائج الحوار الوطني خروج الترويكا من الحكم وتشكيل حكومة السيد مهدي جمعة، وقد حظيت هذه الحكومة بدعم من معظم الجهات السياسية، وكان لخروج الترويكا أثر غير مباشر على التوازنات داخل الرباعي الراعي، فلم يمنع توحد مكوناته من أجل إزاحة الترويكا من ظهور تناقضات داخله بين قوة العمل وقوة رأس المال في العلاقة بحكومة التكنوقراط واستحقاقات المرحلة الانتقالية.

إلى الانتقال الديمقراطي
تعيش تونس انقساما في الهوية والثقافة، وهو انقسام أفقي يشق النخبة يختزل في ثنائية حداثي/أصالي، وتعيش انقساما اجتماعيا يكثف في ثنائية ساحل/داخل، ولا معنى للتأسيس الجديد إذا لم يرأب الصدع بتخطي الانقسام في الهوية والثقافة وتوحيد البلد اجتماعيا، وهذا هو المضمون الجديد للديمقراطية الناشئة، فالتأسيس الديمقراطي والتوحيد الاجتماعي فعلان متلازمان.

وما بدأ يظهر من انحراف عن السيرورة الثورية الاجتماعية مرده إلى فك الارتباط بين التأسيس والتوحيد من ناحية، وتحول التأسيس إلى مجرد انتقال ديمقراطي، وتجسّد فك الارتباط بين التأسيس الديمقراطي والتوحيد الاجتماعي ميدانيا في انسحاب الثوار الحقيقيين إلى هامشهم وسياسيا في انحسار المشهد الاجتماعي إلى حدود المجال الذي كانت تغطيه الدولة، كما لو كنا أمام إصلاح ديمقراطي في ظل النظام القديم.

إذا كانت القوى الإقليمية والدولية ترغب في أن تستقر العملية السياسية عند توازن سياسي بين القديم والجديد فإن بعض الشروط وأهمها منسوب الحرية العالي لا يخدم قوى القديم لعجزها البنيوي عن التطبيع مع مناخ الحرية 

انطلق التأسيس الجديد مع انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهي انتخابات تمت في شروط المنظومة القديمة، لذلك فإن الصراع الرئيسي كان بين محاولة التأسيس الجديدة والمنظومة القديمة، ومثل الحوار الوطني فاصلا فعليا بين مرحلتين وتحولا في ميزان القوى لصالح القديم، وكان شعاره التوافق، وفي التأكيد على التوافق إيحاء بغيابه.

غير أن الحقيقة كانت خلاف ذلك، فقد مثلت الانتخابات التأسيسية توافقا واسعا بين القوى المنتسبة إلى الثورة قاعدته الإجماع على صندوق الاقتراع حَكَما بين البدائل المختلفة، في حين توسّع التوافق مع الحوار الوطني، ليشمل المنظومة القديمة، وبذلك أمكن التمييز بين “التأسيس” باعتباره توافقا بين “قوى الثورة”، و”الانتقال الديمقراطي” باعتباره توافقا بينها وبين المنظومة القديمة.

يمثل الانتقال من محاسبة المنظومة القديمة على قاعدة التأسيس إلى منافستها على قاعدة الانتقال الديمقراطي معطى جوهريا في كل محاولة استشراف لمستقبل تونس والمنطقة، وإذا كانت القوى الإقليمية والدولية ترغب في أن تستقر العملية السياسية عند توازن سياسي بين القديم والجديد فإن بعض الشروط وأهمها منسوب الحرية العالي لا يخدم قوى القديم لعجزها البنيوي عن التطبيع مع مناخ الحرية وعلوية القانون وسيادة المؤسسة بسبب نشأتها في مناخ الاستبداد، إذ في سياقه بنت نفسها وراكمت امتيازاتها حتى غدا الاستبداد أقرب إلى العنصر التكويني فيها.

ولكل هذه الأسباب فإن التوازن الذي تجري إليه الحياة السياسية على المديين المتوسط والبعيد مرشح لأن يكون بين قوى الجديد نفسها، ولا يعني هذا سوى أن “الانتقال الديمقراطي” يمكن أن يتطور إلى “تأسيس”، وتوجد على هذا دلائل من الحياة السياسية الجديد ومجالها السياسي الذي انفتح مع ثورة الحرية والكرامة.

إن أفق المشروع الوطني تأسيس ديمقراطي وتوحيد اجتماعي بما يعنيانه من صياغة مزدوجة للدولة والمجتمع: صياغة للدولة تمكن من تغطية كل المساحة الاجتماعية وترأب الصدع الاجتماعي وصياغة للمجتمع توحد بين الوطني والأهلي، بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي لينصهرا في مجتمع جديد هو شرط التوازن مع دولة وطنية -فعلية هذه المرة- قاعدتها الحكم المحلي.

شارك المقال إن أعجبك؟

اترك تعليقاً

Leave a comment

مقالات مشابهة